فصل: فصل: معقود فيما يسمى يمين اللجاج والغضب، ويسمى يمين الغَلَق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: معقود فيما يسمى يمين اللجاج والغضب، ويسمى يمين الغَلَق:

11826- وتصويره يستدعي ذكر تقاسيم:
فما يلتزمه المرء ينقسم إلى ما يكون نذراً، وإلى ما لا يكون نذراً. والنذر ينقسم إلى ما يكون على طريق التبرّر والنُّسُك، وهو المعلّق بشرط، والالتزام معه في حكم الاستسعاف بالطّلِبة، أو الاستدفاع لبلية محذورة، وذلك كقول القائل: إن شفى الله مريضي، أو ردّ غائبي، أو رزقني ولداً، أو ما في معناه، فلله عليّ كذا، فإذا ذَكَر على هذا المعرض ما يصح التزامه، كما سيأتي مشروحاً في كتاب النذر، إن شاء الله عز وجل؛ فإنه يلزمه ما سماه، إذا تحقق ما سأله وطلبه، وهذا إذا قال: إن شفى الله مريضي، فعليّ صدقة لله.
فإن لم يُضف ما التزمه إلى الله تعالى، فقد ذكر القاضي وجهين حكاهما:
أحدهما: أنه نذر ملزم يجب فيه الوفاء بالمسمى، وهذا هو الأصح، لأنه لا يلتزم بالنذر إلا القربات، وأجناسُ القربات مُشعرة بوقوعها لله تعالى، فصار ذلك كالمصرح به.
والوجه الثاني- أن الالتزام لا يصح، ما لم يُضَف الملتزَم إلى الله تعالى؛ فإن القربات إنما تصير قربات بالإضافة إلى الله تعالى لا بألقابها.
والضرب الثاني- النذر المطلق الذي لا يُعلّق باستدفاع أو استسعافٍِ وسؤال، وهو أن يقول القائل: لله علي عتق رقبة، أو صدقة، أو غيرها، مما يلتزم. وفي هذا القسم قولان:
أحدهما: أنه لا يلزمه شيء؛ فإنه تبرع، فلا يلزم بالالتزام، كما لو التزم أن يهب لزيد شيئاً، بخلاف الملتزَم في القسم الأول، فإنه مذكور عوضاً، وسيأتي شرح ذلك في كتاب النذور، إن شاء الله.
ثم قال القاضي إذا قال: عليّ عتق رقبة، واقتصر على هذا القدر، ولم يضفه إلى الله تعالى، فلا يلزمه مذهباً واحداً، وإنما الوجهان في ترك الإضافة في نذر التبرّر.
ولا وجه للقطع الذي ذكره؛ فإن النذر المطلق إذا جعلناه ملزماً بمثابة نذر التبرّر عند وجود الشرط، فإذا جرى الخلاف عند ترك الإضافة في نذر التبرّر، وجب لا محالة إجراء مثله في النذر المطلق. على أن الأصح عندنا أن الإضافة ليست مشروطة، وإنما يظهر الخلاف في الإضافة في نيّات العبادات كما تقدم ذكره في أبواب النيات- وما ذكرناه كلام في النذر.
فأما الغَلَق، فصورته أن يقول: إن دخلت الدار، فعليّ صدقة أو عتق، أو ما أراد مما يُلتزم بالنذر، وشرط تصوير الغلق أن يقصد بذكر الملتزَم منع نفسه من الإقدام أو الإحجام، على حسب صيغة اليمين، فإذا ذكر ما ذكر على حكم اليمين، ثم حنِث، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها:وهو المنصوص الظاهر- أنه يلتزم كفارة اليمين بالله تعالى إذا حنِث، ولا يلتزم الوفاء بالملتزَم، وقال الشافعي في بعض المواضع في المسألة قولان:
أحدهما: أنه يلزم كفارة اليمين، وسكت عن القول الآخر، فقال الأصحاب: الظاهر أن القول المسكوت عنه إيجاب الوفاء، فحصل قولان. والقول الثالث: أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين المذكور الملتزَم، وهذا القول مأخوذ من لفظ الشافعي في مسألة من كتاب الإيلاء، وقد ذكرناها.
فانتظم بما أشرنا إليه ثلاثة أقوال نوجهها على قدر الحاجة:
من قال: الواجب كفارة اليمين، وهو مذهب عائشة وعطاء، فمعتمده أن وضع اليمين على ألا يلتزم الحالف ما صرح به؛ من جهة أنه لا يذكر الالتزام تقرباً، وإنما يذكره ليمتنع بسببه أو ليُقْدم، وحكم الشرع فيما هذا سبيله الكفارة، والملتزَم في اليمين بالله الامتناعُ أو الإقدام، ولا يجب واحد منهما عندنا.
ومن أوجب الوفاء، احتج بأنه التزم أمراً يمكن التزامه، فإذا ألزمناه شيئاً، فالوفاء أقرب لازمٍ.
ومن قال بالتخيير-وإليه ميل القاضي- احتج بتردد الصيغة بين اليمين والنذر، وهذا التقاوم يقتضي تردداً بين الأصلين، ونتيجتُه التخيير.
11827- ثم سميت الصيغة بيمين اللِّجاج لجريانها غالباً حالة اللِّجاج، وسميت يمين الغَلَق، لأن صاحبها يُغلق على نفسه باباً في إقدام أو إحجام، ثم قد يختلط يمين الغَلق بنذر التبرّر في كثير من الصور، ويختلف ذلك بقصد القائل، ثم الحكم أنه إن قصد التبررَ، التزم الوفاء قولاً واحداً وكان ناذراً، ولم يكن حالفاً. وإن لم يقصد التقرب، ولكن قصد منع نفسه، فيكون حالفاً يمين الغَلَق، وفيه الأقوال الثلاثة.
ثم أطنب القاضي في التصوير في ازدحام التبرر واليمين، وقال: المذكور ثلاثة أضرب: واجب، ومحظور، ومباح. فالواجب يتصور في إثباته التبرر والغلق مثل أن يقول: إن صليت الظهر، فعليّ كذا. هذا محتملٌ للتبرر، وتأويله: إن وفّقني الله لفعلها، فعليّ كذا، ويحتمل الغلق بأن يمتنع الرجل عن الصلاة، فيقول له القائل مثلاً: صلّها، فيقول في جوابه: إن صليتها، فعلي كذا.
وأما إذا كان المذكور محظوراً، مثل أن يقول: إن لم أشرب الخمر، فعليّ كذا، فالتبرّر ممكن، وتأويله إن عصمني الله تعالى عن شربها، فعليّ كذا. ومحتمل للغَلَق على تقدير أن يقال له: لا تشربها اليوم. فيقول: إن لم أشربها اليوم، فعلي كذا.
ولو قال: إن شربتها، فعليّ كذا، فلا يتصور التبرر في هذا القسم، والغَلَق متصوّر.
وإن كان المذكور مباحاً تصور في نفيه وإثباته التبرر والغلق، ومثاله، أن يقول: إن أكلت هذا الرغيف، فعليّ كذا، واحتمال التبرر فيه إن شهَّاني الله وقوّاني، وأنعم بإدامة إمكاني، فعليّ كذا- والغلق لا شك في تصوره. وإن نفى، فقال: إن لم آكل هذا الرغيف، فعلي كذا- فالتبرر ممكن. وتأويله: إن وفقني الله لقهر النفس، وقلعها من نَهْمَة الأكل، فعليّ كذا. ولا حاجة إلى التكلف في تصوير الغلق. فهذا بيان يمين اللجاج والغضب.
وكان شيخي يقول: إذا قال: إن دخلت مكة، فعليّ كذا، انقسم فيه إمكان التبرر والغلق، والغلق وجهه بين. وإن قال: إن دخلت نيسابور، فعليّ كذا، فهو غَلَق محض، وما ذكره القاضي يقتضي تصوير التبرر في جملة المباحات، وكان شيخي يخصص التبرر بما يظهر كونه مقصوداً وحصوله على غرر، وقد وافقه على هذا طائفة من الأصحاب.
وحاصل الطريقة أن لا تبرر في النِّعم المعتادة، كما أنا لا نستحب سجود الشكر لها، وإن كانت نِعَماً، وما ذكره القاضي أفقه وأَوْقع. والمتبع في سجود الشكر التعبد، وقد وردَ خاصاً، فاتبعنا مورد الشرع، ونذرُ التبرر ورد مسترسلاً غير مختص، فالتعويل فيه على المقصود، فمهما انتظم القصد إلى مقابلة نعمة بشكر، فهو صورة التبرر.
وإذا قال الرجل ابتداء: "مالي صدقة"، فالذي قطع به القاضي أن هذا لغوٌ من الكلام؛ لأنه ليس بالتزام، والصدقة جهة لابد من إيقاعها، وهي التصدق والقبول، وكذلك إذا قال: مالي في سبيل الله، فهو لغو، وتعليله بما ذكرناه.
وكان شيخي أبو محمد رحمه الله يذكر طريقتين: إحداهما- حمل ما ذكره على النذر المطلق.
والثاني: تصحيح ذلك منه إيقاعاً، كما لو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، وهذا بعيد، ولا قياس على الضحية؛ فإن المتبع فيها أخبار وآثار، حتى انتهى الأمر إلى الاكتفاء بمخايل الأحوال كالإشعار والتقليد، فهذا ما أردناه.
ولو قال: إن دخلت الدار فعبدي حر، فلا شك في حصول العَتاقة عند الدخول؛ فإن هذا تعليق على صفة. ولو قال: إن دخلت الدار، فمالي صدقة، فهذا لغو عند القاضي. وهو على طريقة شيخنا تعليق إيقاع في طريقة، أو غَلَق في طريقة، وفيما قدمناه إيضاح هذا.
11828- وكان شيخي يتردد فيه إذا ذكر صاحب الغَلَق أجناساً من القُرَب؛ مثل أن يقول: إن دخلت الدار، فلله علي حج، وعتق، وصدقة، فربما كان يقول: إن فرعنا على قول الكفارة، عدّدناها بتعدد الأجناس، وهذا أبداه في معرض الاحتمال، ثم استقر جوابه على اتحاد الكفارة، وهو الذي يجب القطع به؛ فإنا إذا كنا لم نوجب الوفاء، فلا حاصل للنظر إلى الملتزَم تعدّدَ أو اتَّحَدَ، بل التعويل على الالتزام فيما يصح التزامه، ثم يُحاد عنه إلى الكفارة، وما قدمناه غير معتد به، ولا خلاف أنه لو ذكر حِجَجاً لم تتعدد الكفارة.
ومما نذكره متصلاً بهذا أنا إذا قلنا: الواجب الكفارة، فلو وفى هل يخرج عما عليه؟ ذكر الأصحاب وجهين: وهذا زلل عظيم؛ فإنه قول التخيير بعينه، فلا معنى لاعتقاد مزيد في التفريع على قول التخيير.
فرع:
11829- إذا قال: إن فعلت كذا، فعلى نذرٌ، نصّ الشافعي على أن عليه كفارة يمين، قال القاضي: عندي أن هذا يبتني على موجَب يمين الغَلَق، فإن قلنا: موجَبها الكفارة، فالجواب ما ذكره الشافعي. وإن قلنا: موجبه الوفاء، فيلزمه قُربة من القُرَب، وعليه تعيينها، وحق تلك القُرْبة أن تكون ملتزَمة بالنذر.
ولو قال: إن في خلت الدار، فعليّ يمين، اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو لغو، وهو الصحيح؛ فإنه لم يأت بنذر، ولا بصيغة اليمين، ومنهم من قال: عليه ما على الحالف إذا حنث، والوجه عندنا على هذه الطريقة أن يلحق هذا بالكنايات المحضة، ويُرجع إلى نيته وقصده.
فإن قيل: ألستم ذكرتم أن الأيمان لابد فيها من ذكر اسمٍ معظّم؟ قلنا: نعم، وإنما اتجه الخلاف هاهنا لتصريحه بالالتزام.
ولو قال: إن دخلت الدار، فعليّ كفارة يمين، فإذا دخل الدار، لزمته كفارة يمين، ثم هي كفارة يمين أم وفاء؟ فعلى ما ذكرنا من الأقوال.
فرع:
11830- إذا قال: والله لا أصلي، فتحرّمَ بالصلاة، فالمذهب أنه يحنث بالتحرم، وإن بطلت الصلاة عليه. ومن أصحابنا من قال: لا يحنَث حتى يأتي بصلاة صحيحة، وأقلُّها ركعة، حتى لو صح تحرمه، أو صحت ركعات من صلاته، ثم أفسدها، فلا كفارة عليه.
فإن فرعنا على هذا الوجه، فإذا تمت الصلاة على الصحة، فيحنث عند نجازها، أو يتبين أنه حنث بالتحرم؟ فعلى وجهين. وما ذكرناه في الصلاة يجري في الصوم إذا قال: لا أصوم وأصبحَ صائماً.
ولو قال: والله لا أحج، وتحرم بالحج على الفساد- فالذي أراه أنه يحنث؛ فإن الحج الفاسد حج موصوف بالفساد، وهذا يناظر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في
البيع الفاسد، فإنه اعتقده بيعاً وناط به الحنث والبر.
فرع:
11831- ولو قال: لا آكل الفاكهة، حنث بالرَّطْب منها واليابس، ويحنث بالعنب، والرمان، خلافاً لأبي حنيفة رضي الله عنه، والفواكهُ اليابسة أراها أجناساً يُتفكه بها، ولا تستعمل أقواتاً، والعلم عند الله، ولو كان يتعاطى اللبوب، كلُبّ الفستق وما يعتاد التفكه به، فيه تردد عندنا، والقِثاءُ ليس من الفاكهة، وفي البطيخ تردد، حكاه الشيخ أبو علي عن الشيخ أبي زيد. والثمار لا تحمل إلا على الرَّطْب بخلاف الفاكهة.
فرع:
11832- إذا قال: والله لا أحمل خشبة، فحملها مع غيره، لم يحنث؛ فإنه شاركه ولم يستقل، ولو قال: لآكلن هذه الرمانة، فأكلها إلا حبة، لم يحنث، ولو قال: لآكلن هذا الرغيف، فخلف فتاتاً محسوساً، لم يحنث إذا كان لا يبعد جمعه والإتيان عليه في حق من يريد الاستيعاب، فأما الفتات التي لا يتأتى جمعها، ولا يَعتاد جمعَها من يريد الاستيعاب، فلا معتبر بها. وكان شيخي يقول: ما يمكن جمعه وإن عسر لابد منه، وهذا فيه نظر، لأن صاحب الواقعة يسمى آكلاً للرغيف.
فرع:
11833- لو قال: لأُثنين على الله تعالى بأحسن الثناء، فلابد أن يقول: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
فإن قال: لأحمدن الله بمجامع الحمد، فقد قيل: مجامع الحمد ما ذكره جبريل لآدم عليه السلام، إذ قال آدم: علمني مجامعَ الحمد، فقال: قل: "الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافىء مزيده".
فرع:
11834- إذا قال لا آكل الرطب فأكل المصنَّف، فنصفه رطب، ونصفه بُسر، فإذا أكله، حنث إلا على مذهب الإصطخري؛ فإنه لا يرى التحنيث بالخلط.
فرع:
11835- إذا حلف لا يأكل لحماً، فأكل لحم ميتة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما- أنه يحنث، وهو القياس، فإن اسم اللحم ينطلق في حقيقة اللسان على لحم الميتة انطلاقه على لحم الذكيّة.
والوجه الثاني- أنه لا يقع الاعتداد به؛ من جهة أنه لا يُعنى ولا يقصد، ومطلق الألفاظ محمول على المقصود الذي يخطر للاّفظ، وهذا متلفِّت على الأصول الممهدة في التعلق بحقيقة اللسان، أو عرف اللافظ.
ولو قال: لا آكل الميتة، وأكل السمك، ففي تحنيثه وجهان إذا كان اللفظ مطلقاً، ومأخذهما قريب مما ذكرناه الآن، فمن اعتبر موجَبَ الاسم، حَنَّث، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد». ومن اعتبر تنزيل اللفظ على العرف فالسمك لا يسمى ميتة، ولو اتبعنا حقيقة الموت، فالذكية ميتة أيضاً، ولا تعلق بما رويناه؛ فإنه عليه السلام، كان يتكلم بوجوه لا تنزل الأيمان عليها، والدليل عليه أنه سمى الكبد والطحال دمين، ومن حلف لا يأكل الدم، لم يحنث بأكل واحد منهما.
فرع:
11836- ومن حلف لا يشم الريحان، فأطلق لفظه فهو محمول على الريحان الفارسي المسمى الضَّيْمران، وهو " شاه اسْبَرَم". ولو حلف لا يشم الورد، لم يحمل على الأزهار، وإنما يحمل على الورد المعروف. فلو قال: لا أشم البنفسج فشم دهن البنفسج فالوجه القطع بأنه لا يحنث، وإن أدرك رائحة البنفسج، فإن يمينه معقودة على شم البنفسج؛ وذكر صاحب التلخيص وجهاً أنه يحنث بشم دهن البنفسج، ولا سبيل إلى توجيه هذا بإدراك رائحة البنفسج، فإن من قال: لا أشم المسك، ثم أدرك ريحه العابق بثوبِ إنسان، لم يحنث، وقيل في توجيه ما ذكره إن الناس قد يسمون دهن البنفسج بنفسجاً، وهذا شيء لا يروج على مُحصِّل، ثم هذا الوجه مخصوص بدهن البنفسج من بين الأدهان.

.باب: النذور:

11837- الأصل فيها قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «أوف بنذرك» والنذرُ ملزِم إجماعاً، والملتزَم به لازم على الجملة، والخلاف في التفاصيل.
ثم الذي يقتضيه الترتيب الذي وضعنا عليه الكُتب أن نقدم قواعدَ، منها منشأ المسائل، حتى إذا تمهدت، خُضنا بعد تمهيدها في المسائل.
وأول ما رأينا الاعتناءَ به بيانُ ما يلتزم بالنذر، ولم يتعرض للاهتمام به، ومحاولة ضبطه غيرُ القاضي، وأجرى الأئمة الماضون كلاماًً دلّوا به على مقاصدهم، ولم يحرّروه، ونحن نستعين بالله ونذكر ما تحصل لنا من كلام الأئمة.
كان شيخي يقول: إنما يُلتزم بالنذر ما له أصل في الوجوب الشرعي، كالصلاة والصوم، والصدقة والحج، وما لا أصل له في إيجاب الشرع لا يُفتَتَحُ بالنذر التزامه، ثم كان يُعترض بالاعتكاف على هذا الأصل؛ فإنه ملتزم بالنذر وفاقاً، ولا أصل له في الوجوب الشرعي، وكان يحكي في محاولة الجواب عنه أن الاعتكاف حصولٌ في بقعة مخصوصة، وهو يناظر الحصول بعرفة. والغرض من ذكر ذلك أنه ملتزم بالنذر إلحاقاً بإيجاب الشرع الحصولَ بعرفة.
وهذا كلام لا ينتظم، وليس الاعتكاف مضاهياً للحصول بعرفة، فلا حاجة إلى تقدير هذا. وكان يقول: لا يُلْتزَم تجديد الوضوء بالنذر؛ من جهة أنه لا أصل لإيجاب الوضوء من غير حدث فلا يُلْتزَم، في كلامٍ لا حاجة إلى ذكره على وجهه.
11838- والذي أرى التعلُّقَ به في ضبط كلام الأصحاب الأولين منهم والمتأخرين أن أقول: العبادات المقصودة التي شرعت عباداتٍ، وتحقق اهتمام الشرع بتكليف الخلق إيقاعَها على حقيقة العبادة ملتزَمةٌ بالنذر، ولا حاجة إلى تقدير وقوعها في واجبات الشريعة، فُتُعْمد، على أن الاعتكاف لا أصل له في واجبات الشريعة، ولكنه شرع عبادةً مقصودة، فاتجه التزامه بالنذر، ولا فقه تحت اشتراط وقوع مثل المنذور واجباً في الشريعة؛ فإن الملتزَم يثبت وجوبه ابتداء، فانتظم هذا الأصل؛ من غير احتياج إلى الاعتذار عن الاعتكاف بما لا يتجه.
ثم هؤلاء يقولون: لو نذر الرجل عيادة مريض، أو زيارة قادمٍ، أو إفشاء السلام، فهذه الأشياء لا تلتزم بالنذور؛ فإنها لم تثبت عبادات، وإنما هي من القُربات التي إذا أخلص المرء فيها، وابتغى وجه الله، ارتجى ثواباً. ولسنا بعدُ في التزام التوجيه، وإنما نحن في ضبط المذهب.
وأما المتأخرون؛ فإنهم ذهبوا إلى أن القربات بجملتها تلتزم بالنذر التزام العبادات؛ فإن ما أُثبت قربةً بمثابة ما أثبت عبادة، واستثنى القاضي من هذا المسلك، وقال: كلُّ قربة ملتزمةٌ بالنذر، إذا كان لا يفضي الأمر إلى إبطال رخصة، وبيانه أن من نذر أن يُتم الصلاة، ويصوم في السفر في رمضان، ثم أراد أن يَقْصُر، كان له ذلك، وإذا أراد أن يُفطر، فله أن يفطر، وإذا نذر المريض الذي يجوّز له الشرع الصلاة قاعداً-مع القدرة على القيام- أن يقوم، ويتكلف المشقة، فلا يلزمه الوفاء به، وكذلك القول فيه إذا نذر أن يصوم مع المرض المبيح للفطر، وسبب ذلك أنا لو أَلزمنا النذر، لكان ذلك تعطيلاً للرخصة، ومصيراً إلى أن الواجب بالنذر يزيد على الواجب شرعاً، ومعلوم أن الصوم الذي هو ركن الإسلام يسوغ تركه بعذر المرض والسفر، فيبعد أن يزيد تأكد المنذور على ما هو ركن الإسلام.
ومما يجب تأمله أن العبادات التي تُلتزم أصولها بالنذر لو فرض التزام صفات مستحبة فيها-ورد الشرع بالاستحثاث عليها- بالنذر، فالوجه القطع بأنها تُلتزم، وهذا بمثابة إطالة القيام، والركوع، والسجود، وإكثار قراءة القرآن، وإنما رأينا القطعَ بذلك؛ من جهة أنا رأينا نصَّ الشافعي دالاً على التزام المشي في الحج بالنذر، إذا حكمنا بأن المشي أفضلُ من الركوب، فإذا كانت هذه الصفة تلتزم، فكل صفة مستحبة في العبادات المفروضة ينبغي أن تُلتزم بالنذر، فلا يجوز أن يختلف الأصحاب في هذا.
11839- ومما نذكره في ذلك التعرضُ لالتزام ما هو من فرائض الكفايات. قال صاحب التلخيص: من نذر لله الجهاد في جهةٍ عيّنها، وجب عليه الوفاء بنذره، والجهاد من فروض الكفايات، ولم يخالفه الأصحاب في تعيُّن الجهاد عليه على موجَب نذره.
ولو نذر الرجل أن يصلي على ميت، فهذا فيه تردد، والأظهر أنها تتعين بالنذر قياساً على الجهاد.
والذي تحصل لنا في هذا الفن أن كل فرض من فروض الكفايات تمسّ الحاجة في تأديته إلى بذل مال ومعاناة مشقة، وقطع شُقة، فيلتزم بالنذر، كالجهاد وتجهيز الموتى، وما في معناه، وما لا يتعلق بتأديته بذلٌ-قال- فهو على تردد. والأوجه ما ذكرناه.
وإذا نذر الرجل أن يأمر بالمعروف، فهذا ملتحق بنذر الصلاة على الميت.
ثم ظاهر كلام صاحب التلخيص أن الجهة التي عيّنها للجهاد تتعيّن، ولا يقوم الجهاد في جهة أخرى مقامَ الجهاد في تلك الجهة.
وقد قال الشيخ أبو زيد: لا تتعين الجهة، بل عليه أن يجاهد، وليقع الجهاد في أي جهة تفرض، ثم صرح بأن الجهة التي ينتهض لها لو كانت أقرب وأسهل، فلا بأس.
والذي إليه ميل الشيخ أبي علي أن الجهة لا تتعين، ولكن إذا عيّن جهة، فلتكن الجهة التي أمّها مجاهداً قريبةً من الجهة التي عينها في المؤنة، ومكابدِة المشقة، وتكون مسافاتُ الجهاد كمسافات المواقيت في النسك، وقد ذكرنا أن الميقات لعينه لا يُعنى، وإنما المطلوب مسافة الميقات.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أوجه: أحدها: أن تلك الجهة تتعين، وهذا مذهب صاحب التلخيص.
والثاني: أنها لا تتعين. ويخرج الناذر عن عهدة النذر بجهادٍ وإن قرب وسهل. والوجه الثالث- أن تلك الجهة لا تتعين، ولكن لا يخرج الناذر عن موجَب نذره إلا بالجهاد فيها أو في مثلها.
وهذا منتهى ما أردنا أن نذكره نقلاً عن الأصحاب.
11840- ونحن نذكر بعد ذلك ضبطاً وتقريباً يجمع مسالك الأصحاب، فنقول: الأعمال والأقوال ثلاثة أقسام: منها العبادات التي شرعت عبادات، وهي ملتزمة بالنذر وفاقاً. ومنها قربات لم يقع اعتناء الشرع بإثباتها على حقاًئق العبادات، كعيادة المريض وغيرها، وفيها خلاف الأولين والمتأخرين، والقسم الثالث: مباحات في وضع الشرع يتصوّر إيقاعها قربةً بالقصد والإخلاص، كالاكل على قصد التقوِّي على العبادة، والنوم على قصد طرد الغفوة حتى إذا أنشأ في جوف الليل، كان حاضر القلب متيقظ النفس، فهذه الفنون لا تلتزم بالنذر بلا خلاف.
والصفاتُ المحبوبة في العبادات تُلتزم بالنذر، إذا التُزمت مع الموصوف، مثل أن يقول: لله عليّ أن أحج ماشياً-إذا جعلنا المشيَ أفضلَ- وكذلك لو نذر صلاةً، وذكر تطويلها بالقراءة و مدّ ركوعها وسجودها.
فأما إذا التزم صفة في واجب شرعي كالمشي في حَجة الإسلام، أو تطويل الصلاة في المفروضة، ففي المسألة وجهان؛ لأن الصفة لا تستَقِلُّ بنفسها.
وفرائض الكفايات منقسمة كما ذكرناها، وما كان يذكره شيخي من أن تجديد الوضوء لا يلتزم بالنذر، لا وجه له؛ فإنه عبادة مقصودة، فالوجه القطع بأنه يلتزم بالنذر إلحاقاً له بالعبادات المحضة.
ولو التزم بالنذر إقامةَ النوافل الراتبةِ، كركعتي الفجر والوتر وما أشبههما، فالظاهر عندنا أنها تلتزم بالنذر، كما يتعين فرض الكفاية بالنذر. ومن أصحابنا من لم يُلزمها؛ لأن الشارع أثبتها نوافلَ راتبةً، ولم يوجبها رخصةً، فإلزامها يخالف وضعَ الشرع فيها.
والجماعة تلتزم بالنذر؛ فإنها من صفات العبادة.
ولا يلتزم بالنذر انكفافٌ قط، حتى لو نذر ألا يفعل مكروهاً، لم يلزمه الوفاء بنذره.
11841- هذا هو الإمكان في الضبط والتفصيل، ولم يبق إلا الرمز إلى توجيه طرق الأصحاب.
أما ما صار إليه المتأخرون، فوجهه بيّن، وما ذهب إليه المتقدمون من تخصيص المنذورات بالعبادات فتوجيهه ضعيف، وَيرِدُ عليه التزامُ الجهاد؛ فإنه لم يشرع شرع الصلاة والصوم، ولا نعرف خلافاً في أنه يُلتزَم بالنذر، كما حكيناه عن صاحب التلخيص، فإن منع مانعٌ ذلك، اطرد قياس اعتبار العبادات، وإلا، فلا جواب عن الجهاد. وقد يقول المتقدمون: عيادة المرضى لو كانت تلتزم بالنذر، فلا طريق في لزومها إلا التزام التقرب بها إلى الله، ثم يلزم من الحكم بذلك أن يجب على الناذر أن ينوي التقرب، بالعيادة؛ إذ الأداء على حسب الالتزام، وفي هذا إلحاقها بالعبادات، ولا حاصل في هذا الكلام؛ فإن المتطوع بالعيادة إن أراد الثواب، قصد التقرب، فإذا التزم بالنذر، وجب ما كان متطوعاً به من الفعل والقصد.
ثم الذي أراه في مذهب المتأخرين أن من عاد مريضاً، ولم يتفق منه إنشاءُ قصدٍ- ولعله ما كان ذاكراً للنذر- ففي خروجه عن موجَب النذر نظر، والله أعلم.
وقد نجز ما أردنا ذكره فيما يلتزم بالنذر.
11842- ثم مما نذكره في صدر الباب التقاسيم التي ذكرناها في مقدمة يمين الغَلق، فالنذر ينقسم قسمين:
أحدهما: نذر التبرر، وقد سبق تفصيله، وهو مُلزِم إذا صادف ملتزَماً قولاً واحداً.
والقسم الثاني- النذر المطلق، وهو الذي لا يرتبط بشرط نعمة، أو دفع بليّة، وفيه قولان مشهوران:
أحدهما: أنه لا يُلتزَم؛ فإنه تبرعٌ لا استناد له إلى واجب، وليس كالضمان؛ فإنه يستند إلى دين واجب، فبعُد الالتزام ابتداء، وليس كنذر التبرع؛ فإنه أثبت على صيغة الأعواض تشكّراً، فلم يبعُد وجوبه.
11843- ثم نذكر بعد هذا أصلاً آخر: وهو بيان المقدار الملتزم بالنذر المطلق، ولسنا نلتزم الوفاء بتفصيل ذلك؛ فإن مسائل الباب تفصّله ولكنا نمهد فيه قولاً كافياً، فإذا نذر الناذر، وأطلق الالتزامَ، وتسميةَ الملتزَم، فللشافعي قولان مأخوذان من معاني كلامه:
أحدهما: أن المنذور المطلق يُنزَّل على أقل مراتب الواجب في قبيله، والقول الثاني- أن يُنزل على أقل ما يصح.
وهذا هو الأصح، فمن نزّله على أقل مراتب الواجبات الشرعية تعلّق بتنزيل الواجب بالنذر منزلة الواجب بالشرع، فإنه بالواجبات أشبه. ومن سلك المسلك الثاني، اعتمد لفظ الناذر، واكتفى بأقل ما يصح في قبيل المنذور؛ فإن الزائد عليه لم يتحقق تناول اللفظ له؛ فإلزام الناذر ما لم يتناوله لفظه لا يتجه، فإذا نذر صلاة وأطلق، فيُلزمه القائلُ الأول ركعتين مع القيام، ويُلزمه القائلُ الثاني ركعة واحدة، ويصححها منه قاعداً مع القدرة على القيام؛ فإن الصلاة تصح على هذا الوجه.
وإذا نذر صوماً، كفاه صوم يوم، وهل يلزمه تبييت النية؟ إن نزلناه على أقل مفروض في الباب، فالتبييت واجب، وإن اكتفينا بما يصح، فلو أنشأ النية نهاراً، فعلى هذا القول وجهان مبنيّان على أن المتطوع بالصوم إذا نوى نهاراً، فهو صائم من وقت نيته، أم هو صائم من أول النهار؟ وفيه اختلاف قدمناه في كتاب الصيام.
فإذا تجدد العهد بهذا، نظرنا في لفظ الناذر، فإن قال: لله عليّ صومٌ-والتفريع على تنزيل المنذور على أقل ما يصح- فإذا نوى نهاراً، صح-وإن جعلنا المتطوع صائماً من وقت النية- لأن الذي أتى به صوم.
وإن قال: لله عليّ صوم يوم-وحكمنا بأن المتطوع صائم من أول النهار- فيصح منه أن ينوي نهاراً، وإن قلنا: المتطوع صائم من وقت النية، فلا يخرج الناذر عن موجب نذره، ما لم يبيّت النية، فإنه التزم صوم يوم، ولا يتحقق على هذا الوجه صوم يوم إلا بنية منبسطة على اليوم، والنية لا تنعطف، فالوجه تقديمها على قياس الصوم المفروض شرعاً.
ولو نذر صدقة، لم يخصصها بخمسة دراهم، ولا بنصف دينار، مصيراً إلى أن ذلك أقل الصدقات المفروضة، فإن الخلطاء قد يشتركون في نصاب واحد، فيجب على أحدهم أقل من الخمسة، فلا ضبط لمقدار الصدقة، وهي مُنَزَّلَة على أقل ما يتصدق به. ولم يختلف أصحابنا في أنه لا يتعين على ناذر الصدقة أن يتصدق بشيء من أجناس الأموال الزكاتية. وهذا يعضد القول الصحيح، وهو تنزيل المنذور على الأقل.
ولو نذر اعتكافاً، فلسنا نجد لهذا أصلاً في واجبات الشريعة، فلا وجه في هذا القسم إلا القطع باتباع اللفظ وتنزيله على أقل المراتب، وقد ذكرنا خلافاً في كتاب الاعتكاف في أن الحصول في المسجد مع النية هل يكون اعتكافاً شرعياً من غير فرض مكث؟ وإذا نذر الاعتكاف وفرعنا على أن الحصول في المسجد اعتكاف، فهذا فيه تردد عندي؛ لأنا إن اتبعنا اللفظ فالاعتكاف مشعر بالمكث، فيحتمل أن نوجب المكث تعلقاً باللفظ، ويحتمل أن نجعل الاعتكاف في لفظ الناذر لفظاً شرعياً كالصلاة والصوم.
ثم نكتفي فيه بما يصح في الشرع.
وهذا منتهى المراد في هذا الأصل. وإذا بان ما يلتزم بالنذر والمقدار الذي يلزم بالألفاظ المطلقة، فنعود بعد هذا إلى ترتيب مسائل الباب.
فصل:
قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن نذر أن يمشي إلى بيت الله لزمه إن قدر على المشي... إلى آخره".
11844- إذا نذر أن يحج ماشياً، أو يمشي حاجاً، فالحج ملتزم بالنذر، وهل يلتزم المشي وفاء بالنذر؟ في المسألة قولان مبنيان على أن الحج ماشياً أفضل أم راكباً؟ وفيه قولان ذكرناهما في المناسك. فإن قلنا: لا فضيلة في المشي، لم يُلتَزَم بالنذر. وإن قلنا: المشي أفضل، فيجب المشي وفاءً بالنذر، وعلى هذا الأصل خرّجنا التزام صفات العبادات.
فإذا ألزمناه المشي، فلو ركب وحج، لم يخلُ: إما أن يكون معذوراً عاجزاً عن المشي، أو غيرَ معذور، فإن لم يكن عذر، فهل يقع الحج الذي أتى به عن النذر، وهل تبرأ ذمة الناذر؟ فعلى قولين:
أحدهما: لم يحسب ما جاء به عن النذر؛ لأنه التزم حجاً موصوفاًً بصفة، فإذا لم يأت بالحج على تلك الصفة، لم يكن ما جاء به وفاء بالنذر، واللزوم باقٍ في الذمة، والحج يقع تطوعاً، ولا يتصور على مذهب الشافعي تطوع يسبق الفرضَ في الحج إلا في هذه الصورة على هذا القول.
والقول الثاني- أن الحج يقع عن نذره، وهذا هو الذي ارتضاه معظم الأصحاب، ولكن الشافعي فرّع على القول الأول، وقال: لو مشى في بعض الطريق، وركب في البعض، قضى، ومشى فيما ركب، وركب فيما مشى، وسنذكر بيان هذا في موضعه إن شاء الله. وإنما كان غرضنا أن نبيّن تفريع الشافعي على هذا القول، هذا إذا لم يكن معذوراً.
فإن كان معذوراً في ترك المشي، فحج راكباً، وقع الحج موقع النذر بلا خلاف، وبهذا يقوى أحد القولين في وقوع حج القادر راكباً عن جهة النذر.
التفريع على القولين:
11845- إن حكمنا بأن الحج لا يقع عن جهة النذر، فليس إلا القضاء. وإن حكمنا بأنه يقع عن جهة النذر، فهل يجب بسبب ترك المشي فدية؟ حاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا تجب الفدية، وليس على الناذر إلا الانتساب إلى المعصية في ترك واجب المشي؛ فإن الفدية إنما تجب بترك أبعاض النسك المرتبة فيه، وليس المشي من الأبعاض.
والوجه الثاني: أن الفدية تجب، وهو الأصح؛ لأن النذر ألحق المشي بالأبعاض لما وجب، ولم يكن ركناً، ولا معنى للبعض المقابل بالفدية إلا هذا، ولو أوجبنا المشي، ثم أوقعنا الحج عن الناذر من غير فدية، لكان هذا إحباطاً للملتزَم بالنذر، فلا يتجه إلا القضاء والفدية.
والوجه الثالث: أنا نفصل بين المعذور وغيره، فلا نوجب على المعذور فدية؛ فإنه إنما يلتزم بالنذر على شرط الإمكان، وليس كالأبعاض المرتبة في النسك؛ فإن الشرع كما رتبها رتب أبدالها، وإن لم يكن معذوراً، لزمت الفدية، وقد روي أن أخت عقبة بن عامر نذرت لله تعالى أن تحج ماشية حافيةً غيرَ مختمرة، فجاء أخوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك. فقال عليه السلام: «مُرها، فلتركب، ولتختمر»، ثم اختلفت الرواية، فروي أنه قال: «ولْتهدِ هدياً»، وفي بعض الروايات الأمر بالركوب من غير تعرض للفدية، وحديثها محمول على العجز؛ فإن المرأة لا تستقل بالمشي في غالب الأمر، ولذلك قال رسول الله عليه السلام: «فلتركب».
11846- ومما نفرعه على قول وجوب المشي الكلامُ في أن الناذر متى يأخذ في المشي، ومتى يقطع المشي؟ فنقول: لو صرح بالتزام المشي من دُوَيْرَته إلى الفراغ من الحج، فهل يلزم المشيُ قبل الإحرام؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلتزم المشي؛ فإن هذا مشي في غير الحج، فلا يلتحق بصفات النسك، ومنهم من قال: يلزم الوفاء بالنذر في ذلك، والأجر على قدر النصب، وهذا له التفات على أن الأجير على الحج إذا مات في الطريق قبل الإحرام هل يستحق شيئاً من الأجرة؟ فإن قلنا: لا يلتزم الناذر المشيَ قبل الإحرام، فلا كلام. وإن قلنا: يلتزم المشي قبل الإحرام إذا صرح بالتزامه، فللأصحاب تصرف في لفظ الناذر. فلو قال: لله عليّ أن أحج ماشياً، أو قال: لله عليّ أن أمشي حاجاً-والتفريع على أن المشي قبل الإحرام يُلتَزَم لو وقع التصريح به- فما حكم هذين اللفظين؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: يأخذ في المشي من مخرجه من دُوَيْرَتِه؛ حملاً لكلامه على العادة؛ فإن من قال: حججت ماشياً يعني به المشي في جميع الطرق.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه المشي من وقت الإحرام. إذا قال: أمشي حاجاً أو أحج ماشياً، فإن المشي حالةٌ وصفةٌ في الحج، ولا حج قبل الإحرام.
ومن أصحابنا من فرق بين أن يقول: أمشي حاجاً، وبين أن يقول: أحج ماشياً، فقال: إن قال: أمشي حاجاً، فيمشي من مخرجه إلى المنتهى الذي سنصفه؛ لأن هذا يقتضي أن يمشي في القصد إلى الحج، وإن قال: أحج ماشياً اقتضى هذا أن يكون ماشياً في حالة حجه. وهذا وجه ضعيف صادر عن الجهل بالعربية ومقتضى الألفاظ؛ فإنه لا فرق بين قول القائل: أمشي حاجاً وبين قوله: أحج ماشياً، واللفظان جميعاً يقتضيان اقتران الحج والمشي، فالوجه الاقتصار على الوجهين المقدمين:
أحدهما: يتعلق باللفظ، والثاني: يتعلق بالمفهوم من هذا اللفظ في العرف الغالب.
هذا قولنا في ابتداء المشي.
فأما الكلام في انتهائه، فلأصحابنا فيه وجهان:
أحدهما: أنه يستديم المشي إلى أن يتحلل التحللين؛ فإنه في بقية الحج ما بقي من الإحرام عُلقة، وقد قال: أحج ماشياً. والوجه الثاني- أنه يترك المشي كما تحلل التحلل الأول؛ فإن اسم الحاج على الإطلاق يزول بأحد التحللين، وأيضاً تخف تكاليف النسك، ويدخل وقت الحَلْق والقَلْم، ولُبس المخيط.
وإن نذر أن يعتمر ماشياً، فيستديم المشي إلى إتمام التحلل؛ فإن العمرة ليس فيها تحللان.
11847- ومما نُلحقه بالفصل أنه لو شرع في الحج، ففاته الحج، فلابد وأن يلقى البيت بطواف وسعي، ثم كما فات الحج، انصرف عن جهة نذره، وعلى الناذر حَجةٌ يأتي بها، وهل يجب على الحاج استدامةُ المشي في الحجة الفائتة إلى التحلل؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يجب؛ فإن مبنى الحج على أنه يدوم حكمُه فيما يُلتزم فيه، وإن فات أو فسد. والوجه الثاني-وهو الأقيس عندنا- أنه لا يجب استدامة المشي بعد الفوات؛ لأن المشي ليس بعضاً راتباً شرعاً من أبعاض الحج، وإنما لزم بسبب النذر، وقد انصرف الإحرام عن النذر، وليس الجاري فيه في إحرام منذور، ولو أفسد الحج، فالخلاف في استدامة الحج على نحو ما ذكرناه.
11848- ومما يليق بإتمام المقصود أن من نذر المشي إذا ركب في البعض، ومشى في البعض، وفرّعنا على أنه يجب عليه حَجةٌ يُمَحِّض المشي فيها، فإذا اتفق الأمر على ما وصفنا، فظاهر النص أنه إذا قضى الحج، فله أن يركب حيث مشى، ويجب أن يمشي حيث ركب. وقد اختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: يجب تمحيض المشي، وهذا متجه؛ لأن الحج الأول لم يقع عن النذر؛ إذ لو وقع عنه، لم يجب إعادته، فهذا الحج الثاني هو المنذور، فليأت به على موجَب النذر. ويعسُر على هذا القائل تأويل النص.
ومن أصحابنا من قال بظاهر النص، وكأن هذا القائل يصير إلى أن الحج الأول وقع عن النذر، ولكن يجب استدراك ما ترك من المشي، ولا يتأتى ذلك إلا في الحج- فعلى هذا يستقيم أن يبعّض المشيَ والركوبَ على الترتيب الذي اقتضاه النص- وهذا بعيد- وقد ذكرنا في كتاب الصلاة ما يناظر هذا في إيجابنا إقامةَ الصلاة في الوقت مع إيجابنا قضاءها، وقد حققت قريباً من ذلك في الصلاة المؤدّاة والمقضيّة.
ولو قال: لله علي أن أحج راكباً- فإن قلنا: المشي أفضل من الركوب، فالركوب لا يلتزم وإن قضينا بأن الركوب أفضل من المشي، فالقول في التزام الركوب تفريعاً على هذا كالقول في التزام المشي، تفريعاً على أن المشي أفضل.
قال: "ومن نذر المشي إلى بيت الله... إلى آخره".
11849- قد تقدم القول في نذر الحج إذا وقع التصريح به، وهذا الفصل فيه إذا نذر إتيان مكة من غير تعرض للحج والعمرة، ونحن نرتب في ذلك قولاً على ما ينبغي.
فنجدد العهد أولاً بالقولين في أن من أتى مكة من غير نذر، وأراد دخولها، فهل يلزمه أن يدخلَها محرماً، أم له أن يدخلها من غير إحرام؟ وقد ذكرنا في ذلك قولين في كتاب الحج، ومما نحتاج إليه في هذا الفصل اختلاف القول في أن المطلَقَ في النذر هل يتقيد بواجب الشريعة أم لا؟ وقد مهدنا هذا على القرب.
ومما أرى تقديمَه-وهو مقصود في نفسه- تفصيل القول فيه إذا نذر أن يأتي مسجداً من المساجد سوى المسجد المحرم، قال العلماء: إذا أطلق النذرَ، و عيّن مسجداً سوى المسجد المحرم؛ فإن كان المسجدُ الذي عيّنه غيرَ مسجد المدينة ومسجدِ القدس، فلا يلتزم بالنذر شيئاً أصلاً؛ فإنه ليس في قصد مسجد بعينه غيِر المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومشجد المدينة، ومسجد إيليا- قُربةٌ مقصودة، وما لا يكون عبادةً، ولا قربة مقصودةً، فهو غير ملتزَم بالنذر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا ومسجد إيليا» أراد المسجد الأقصى، وكان شيخي يفتي بالمنع عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد، وربما كان يقول: يكره، وربما كان يقول: يحرم تعلّقاً بظاهر النهي. وقال الشيخ أبو علي: لا يحرم ولا يكره- ولكن أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القُربةَ المقصودةَ في قصد المساجد الثلاثة، وما عداها ليس في قصد أعيانها قربة، وهذا حسن لا يصح عندي غيره.
فأما إذا نذر إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إتيان المسجد الأقصى، فهل يلتزم بالنذر الوفاءَ؟ فعلى قولين مشهورين:
أحدهما: أنه لا يلتزم؛ إذ لا يتعلق بالمسجدين نسك، فصارا كسائر المساجد.
والثاني: أن النذر يلزم الوفاء في المسجدين؛ لأنهما مخصوصان من بين المساجد بمزيّة، كما سنبيّن شرحَها في التفريع، إن شاء الله؛ فأشبها المسجد الحرام.
التفريع على القولين:
11850- إن قلنا: لا يلتزم الناذر شيئاً، فلا كلام، وإن قلنا: يلتزم الوفاء بالنذر، فهل يلزمه أمر سوى إتيان المسجد؟ فعلى وجهين: ذكرهما الشيخ أبو علي في الشرح:
أحدهما: أنه يلتزم قربةً؛ فإن إتيان المسجد من غير قربة زائدة على الإتيان ليس قربة، ولا يستقل النذر ما لم يتعلق بالقربة.
والوجه الثاني- أنه لا يلتزم شيئاً سوى الإتيان؛ فإنه لم يذكر غير الإتيان، فلا معنى لإلزامه ما لم يذكره، ولم يلتزمه، ومبنى النذر على الاقتصار على المذكور.
التفريع:
11851- إن حكمنا بأنه يجب ضم قربة من المسجد المأتيّ إلى إتيانه، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها: أنه تتعين الصلاة، فليصل الناذر في المسجد الذي أتاه صلاة صحيحة. ومن أصحابنا من قال: يعتكف فيه لحظة، ومنهم من قال: يتخير بين الصلاة والاعتكاف.
وذكر الشيخ أبو علي في الذي أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاء بالنذر أنه لو زار قبر النبي عليه السلام-وهو في خِطة المسجد- وقال: كفاه ذلك؛ فإنه أتى بقربة، وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن زيارة قبر الرسول عليه السلام ليست من خصائص المسجد، وليست قربة يعظم قدرها بالمسجد، ولكن اتفق كونها في المسجد.
توجيه الأوجه وتفريعها:
11852- أما من عيّن الصلاة، فمتعلقه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألفَ صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيلياء تعدل ألفَ صلاة في غيره، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره» فإذا كان إلزام النذر بسبب تميز المسجدين-وإنما ميّزهما الشارع بالصلاة- فينبغي أن تكون القُربة المضمومةُ إلى الإتيان صلاةً.
ومَنْ عين الاعتكاف رآه آخصَّ القُرَب بالمسجد؛ فإن الصلاة تصح في غير المسجد، بل الأولى لمن يكون بالمدينة أن يتنفل في منزله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُرى متنفلاً في المسجد إلا في ثلاث ليالٍ من رمضان فإنه صلى التراويح في المسجد، وكان سببُ ذلك اعتكافَه فيه.
ومن خيّر بينهما جمع بين متعلقي الوجهين.
11853- فأما التفريع: فالذي أراه أن الصلاة إذا أوجبناها، فلا تتقيد في هذا المقام بواجب الشرع قولاً واحداً، بل تكفي ركعة؛ فإن الصلاة ليست مقصودة بالنذر في هذا الموضع، ولا يمتنع أن تجري الصلاة مجرى الصلاة المنذورة؛ من جهة أنها وجبت، فلا تنحط عن أقل درجات الواجب.
وأما إذا أقام الشيخ الزيارة مقام الصلاة والاعتكافَ، فقياسه أنه لو تصدق في مسجد المدينة، أو صام يوماًً أنه يخرج عن موجَب نذره، ويجوز أن يقال: الزيارة تنفصل عما ذكرناه لكون المزور في رقعة المسجد، فهو مختص من هذا الوجه.
ومما نفرعه في نذر إتيان المسجدين أنا إذا قلنا: يكفي الإتيان المجرد، فليت شعري- ماذا يقول صاحب هذا الوجه إذا أتى باب المسجد وانصرف؟ فإن قال: يكفيه ذلك، فهذا بعيد؛ فإن إتيان المسجد والانصراف عنه على هذا الوجه ليس بقربة، ولا يبعد أن يُلحق بأصناف العبث، وإن قال هذا القائل: لابد من دخول المسجد، فالدخول من غير قصد الاعتكاف ليس بقربة، وقد ورد النهي عن إطراق المساجد من غير حاجة، وإن شرط ضمَّ الاعتكاف، فقد أبطل قاعدة مذهبه في الاقتصار على إتيان المسجد، وتبين بهذا الخبط فسادُ أصل الوجه- ولا يبقى إلا أن يقول صاحب هذا الوجه الضعيف: إتيان المسجد تقرب وتبرك، واستجلاب يُمن، وهذا نازل منزلة زيارة العلماء، وهذا بعيد. وإن تعلق بقصد الاعتكاف، فقد صرح بنقض مذهبه.
ومما فرّعه الشيخ في الشرح أن قال: إذا أَلْزمنا إتيان المسجدَيْن بالندر، فلو نذر إتيان أحدهما ماشياً، ففي التزامه وجهان، بناهما الشيخ على التزام المشي قبل الميقات، ووجه البناء أن كلا المشيين وإن لم يقع في عبادة؛ فإنه واقع في القصد إلى بقعة معظمة.
ولو نذر أن يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في مسجد إيلياء، فالذي قطع به المراوزة أن النذر مُلزِم قولاً واحداً؛ فإنه التزم قربة، وصرح بالتزامها، وضم إليها مزيّةً تُعظِّمُها، فكان ذلك كالتزام الجماعة في الصلاة المنذورة.
وذكر العراقيون ما ذكرناه، وطريقة أخرى- وهي إجراء القولين في هذه الصورة.
فهذا ما أردنا أن نذكره في سائر المساجد إذا نذر الناذر إتيانها.
11854- ونحن بعد ذلك نذكر نذرَ إتيان الحرم. فنقول: إن حكمنا بأن إتيان الحرم من غير نذر يوجب نسكاً، وقلنا: المطلق في النذر يتقيد بواجب الشرع، فإذا نذر الناذر إتيانَ مكة أو إتيان الحرم، يلزمه أن يأتيَ الحرم ناسكاً بحج أو بعمرة، وإن قلنا: ليس على من يأتي مكةَ إحرام، أو قلنا: الملتزَم بالنذر لا يتقيد بواجب الشرع، فكيف حكم النذر في هاتين الصورتين؟
أما الصورة الأولى- وهي إذا وقع التفريع على أن من يأتي مكة لا إحرام عليه، فإذا نذر إتيان مكة، كان كما لو نذر إتيان مسجد المدينة، أو مسجد القدس، وقد مضى التفصيل فيه. ولكنا إن أوجبنا هاهنا الإتيان، وفرّعنا على ضم قُرْبة إلى الإتيان، فمن أصحابنا من قال: تلك القربة حج أو عمرة، فإنهما يختصان بالحرم، ومن أصحابنا من قال: تلك القربة الصلاة؛ تعلقاً بالحديث الذي رويناه، ومنهم من خيّر، ولا يتجه ذكر الاعتكاف على التعيين؛ لأنه لا يختص. وإن سلكنا مسلك الاختصاص، فالنسك أخص، ولو ذكر ذاكرٌ الطواف المجرد لم يبعد، والمخيِّر يخيِّر بين النسك، والاعتكاف، والطواف والصلاة.
ولو عين بقعة من بقاع الحرم لا يتعلق به نسك كدار الخيزران ودار أبي جهل ونحوهما، فهو كما لو نذر إتيانَ مكة أو إتيانَ الحرم.
ولو قال: لله علي أن آتي بيتَ الله تعالى، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلزمه شيء؛ لأن هذا الاسم لا يختص بالكعبة، وكل مسجد يشار إليه، فهو بيت الله.
ومن أصحابنا من قال: يُحمل مطلقُه على الكعبة؛ لجريان العرف بإطلاقه والمراد به الكعبة، والأصح الأول.
ولو نوى بذكر بيت الله الكعبةَ، نُزِّل لفظُه على نيته، وكلامنا في اللفظ المطلق.
11855- ولو نذر إتيان عرفة، فالذي قطع به أئمتنا في الطرق أنه لا يلتزم بهذا شيئاً؛ فإن عرفة من الحل، وليس في إتيانها قُربة، وإنما الوقوف بها ركن من عبادة، فذِكْرُ مكان ذلك الركن لا يُلزم شيئاً.
وقال القاضي إن خطر له شهودُ عرفةَ يومَ عرفة، لزمه، كما لو نذر المشيَ إلى البيت الحرام، وإن لم يخطُِر له ذلك، لم يلزمه شيء. وقال في بعض أجوبته: يلزمه الحج إذا أطلق التزامَ إتيان عرفة، وجواباه مخالفان لما قاله الأصحاب.
والذي يجب تحصيله أنه إن أراد التزامَ الحج، وعبّر عنه بشهود عرفة، لزمه ما نواه. وإن قصد الإتيان فحسب، أو قصد الإتيان، ولم يخطر له الحج، ولكن نوى الإتيان يومَ عرفة، فلا يلتزم شيئاً على مذهب جماهير الأصحاب. وللقاضي جواباه كما ذكرناه. ولو لم يُرد بذكر يوم عرفة التزامَ الحج، ولكن اعتقد الوقوفَ في ذلك اليوم قُربة، فالأمر على خلاف ما ذكره؛ فإن الوقوف ممّن ليس مُحْرِماً لا قربة فيه.
ثم اعتاد الفقهاء ذكر عبارات في إتيان الحرم، منها الإتيان، والمشي، والذهاب، وجميعها سواء.
وإذا نذر أن يضرب بثوبه حَطِيم الكعبة، فهو بمثابة نَذْر إتيانها.
11856- ومما يلتحق بالفصل أنا إذا أَلْزمنا إتيانَ مسجد المدينة، ثم فرعنا على أنه لابد من ضم الصلاة، لو صورنا فيه إذا قال: لله علي أن أصلي في مسجد المدينة، فلو أراد أن يصلي في مسجد آخر من مساجد الدنيا سوى المسجد الحرام ومسجد إيليا، لم يخرج عن نذره؛ للحديث المنقول عن الرسول عليه السلام في ذلك.
ولو التزم الصلاة في المسجد الحرام، فصلى في مسجد المدينة، لم يخرج عما عليه؛ للتفاوت البيّن المنقول فيه.
ولو قال: لله عليّ صلاة في مسجد المدينة، فصلى في مسجد إيلياء، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يخرج عما عليه؛ لاستوائهما في التعديل المروي عن المصطفى عليه السلام؛ فأنه قال: "صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيليا تعدل ألف صلاة في غيره " ومن أصحابنا من لم يخرجه عن موجَب النذر؛ تعلُّقاً بالتعيين المذكور في النذر.
ولو قال: أصلي في مسجد المدينة، فصلى في المسجد الحرام، فالأصح أنه يخرج عن النذر، وفيه شيء؛ أَخْذاً من الالتزام.
ولو قال: أصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ألفَ صلاة في مسجد آخر، لم يخرج عما عليه؛ فإن التفصيل الآيل إلى الصفة لا يقابله العدد، ولو نذر ألفَ صلاة، لم يخرج عن نذره بصلاة في مسجد المدينة. وفي بعض الأخبار: "صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة في المسجد الحرام". وكان شيخي يقول: هذه الزيادة لم يصححها الأثبات، فلا تعويل عليها. فلو نذر صلاة في الكعبة، فصلى في أرجاء المسجد الحرام أجزأه ذلك، هذا ما كان يقول، والعلم عند الله.
وهذا منتهى الكلام في نذر إتيان المساجد وما يتعلق به.
فقال: "ولو نذر أن يُهدي متاعاً، لم يجزئه... إلى آخره".
11857- معظم المقاصد في نذر الهدي الضحايا، وقد مضى في كتاب الضحايا، والمقدارُ الذي نذكره هاهنا أنه إذا نذر أن يسوقَ شاةً أو بدنة، أو ما يذكره إلى حرم الله تعالى ويتقربَ به، فيجبُ الوفاء، ويلزمه تبليغُه مكة، ولا خلاف في التزام ذلك، وكل ما نذكره يؤكد التزام القربات، فإن الهدي في نفسه قُرْبة، وتبليغُه الحرمَ مزيّة، ثم إذا صرح كما ذكرناه، وبلَّغ يلزمه أن يذبح أو ينحر في الحرم، والأصح أنه يلزمه تفرقةُ اللحم ثَمَّ، فلو نقله من الحرم، وفرقه في موضعٍ آخر، لم يُجْزه.
ومن أصحابنا من يقول: إذا نحر أو ذبح في الحرم، فلا حجر عليه، ولا حرج لو نقل اللحم إلى موضع آخر؛ فإن الذبح قُربة، وهو لم يقيد نذره بتفرقة اللحم، والأصحُّ الأولُ؛ فإن الذبح إنما يتقيد بالحرم حتى يكون اللحم المفرقُ على أهله غضاً طرياً، وإلا فلا أَرَبَ في اتخاذ الحرم مذابح ومجازر.
وما ذكرناه فيه إذا ذكر لفظاً يُشعر بذكر قربة، كالضحية وما في معناها، فلو قال: لله علي أن أذبح بمكة أو أنحر بمكة، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن هذا بمثابة نذر التضحية؛ لأن لفظ الذبح محفوف بالنذر من أحد جانبيه، والإضافة إلى مكة من الجانب الآخر، وكل واحد منهما يشعر بالقربة، فصار بمثابة ما لو ذكر لفظ التضحية.
وقال بعض أصحابنا: لا يلتزم بهذا اللفظ شيئاً؛ فإنه لم يذكر عن الملتزَم عبارةً مشعرة بالقُربة، وإنما تثبت القربة بما هو عبارة عنها.
فإن ألغينا اللفظ، فلا كلام، وإن أثبتناه، فهو بمثابة ما لو ذكر التضحية، أو غيرها مما يدل على القُربة، وقد مضى التفصيل فيه.
11858- ولو قال: لله علي أن أضحي بشاة بنيسابور، وأفرق لحمها بها، فالنذر مُلزِم؛ فإن اللفظ صريح عن القربة، وهل يجب تفرقة اللحم بالبلدة التي عينها أم لا؟ فعلى قولين مأخوذين من تفرقة الصدقة ونقلِها، فإن لم نجوز نقل الصدقة، لم نجوز النقل عن البقعة المعينة؛ فإنا إن نظرنا إلى تنزيل المنذور على موجب الواجب في الشريعة، فالنقل ممتنع، وإن تمسكنا باللفظ، فاللفظ صريح في التخصيص.
وإن جوزنا نقلَ الصدقة والنذرُ مخصوص لفظاً بأهل البلدة المعينة، ففي جواز النقل على هذا القول وجهان:
أحدهما: أن النقل ممتنع، وإن جاز نقل الصدقة، تعلقاً باللفظ وموجبه، وليس في ألفاظ الشارع ما يخصص صدقة الرجل بأهل بقعة، والأخبار التي يتعلق بها من يمنع النقل عُرضةٌ للتأويل؛ إذ لو كانت نصوصاً، لوجب اتباعها، واللفظ القابلُ للتأويل إذا أوّله محقق، واعتضد في التأويل بالدليل، فيصير الظاهر مع ما ذكرناه كالمجمل، ولفظ الناذر في مسألتنا نص صريح غير قابل للتأويل.
والوجه الثاني- أن النقل جائز؛ فإن المنذور يتعلق بحقوق الله تعالى، وليس لمن يلتزم حقوق الله تعالى تحكم فيه، والذي يعضد ذلك أنه لا قربة في تخصيص أهل بلدة، وما يبعد عن مسالك القربات، فذكره لغو في النذور- ولم يختلف الأصحاب في أن ما يقيد بالحرم يتقيد به؛ فإنه محل الهدايا، ونهايات القُصود في التقرب بالهدايا أن تبلغ الحرم، كما قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. فصار تبليغها وتفريقها على أهلها من الصفات التي تقتضي مزية في القربة.
فيخرج منه أن التقييد وإن كان نصّاً لغو.
ولو قال الرجل: لله علي أن أتصدق على زيد هذا، وكان فقيراً فتعيّنه يُخرَّجُ على تَعيُّن أهل البلدة.
ثم مهما أبطلنا تقييده، فقد يخطر للفقيه أن النذر يبطل، ويعارضه أن الشرط يبطل، والقُربة تثبت، وهذا يظهر في النذور جدّاً، ويجوز أن يقال: لا يثبت النذر، لا لفساده بفساد شرط مقترن به، ولكن لأن ما التزمه لم يلزمه، وهو لم يلتزم إلا التصدق على زيد أو على أهل البلدة التي عينها، فإن قلنا: لا تتعين البلدة لتفرقة اللحم، فلا تتعين لإراقة الدم فيه، بخلاف الحرم؛ فإن الشرع جعله منحر الهدايا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمنى: «هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر».
وإن قلنا: تتعين البلدة لتفرقة اللحم إذا عينها-والمسألة مفروضة فيه إذا نص على تفرقة اللحم على أهل البلدة المعينة- فهل تتعين تلك البلدة لإراقة الدم بها؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنها تتعين.
والثاني: أنه لو أراق الدم بالقرب، ونقل اللحم غضاً طرياً، جاز، والترتيب جرى على حدّ ما ذكرناه في الحرم؛ فإن الذبح يتعين إيقاعه في الحرم إذا خصصه كما تقدم تفصيله.
11859- ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بنيسابور، ولم يتعرض لتفرقة اللحم بها، وفرعنا على أنه لو قيد النذر بالتفرقة بتلك البلدة، لوجب الوفاء بموجب تقييده.
فإذا أضاف التضحية إلى تلك البلدة، فهل تتضمن إضافةُ التضحية تفرقةَ اللحم على التخصيص؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يتضمن ذلك تخصيصَ أهل البلدة بالتفرقة، فعلى هذا هل تتعين البقعة للتضحية وإراقة الدم؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين، فإن قيل: كيف يثبت الضِّمن، ولم يثبت اللفظ المصرِّح به؟ قلنا: لأن تفرقة اللحم على أهل بقعة مستندة إلى أصلٍ في الشريعة، والتضحية في غير الحرم لا أصل لها. ومن خصص التضحية، فلا محمل لتخصيصها إلا ابتغاء طراوة اللحم إذا فرقت. وإن صور مصور إخراجاً، ونقلاً على القرب، أجبنا عنه بقاعدة الحسم في أمثال ذلك.
وكل ذلك تفريع على أن التضحية تُشعر بتعيين تفرقة اللحم.
ومن أصحابنا من قال: لا تشعر إضافة التضحية بتخصيص تفرقة اللحم على أهل البقعة لو فرعنا على أنه لو صرح بتخصيص البقعة باللحم، لم يتخصص، فتخصيص التضحية على هذا لا أثر له؛ إذ لا تعبد في البقعة، وليست متعيَّنة لتفرقة اللحم، وكل ذلك فيه إذا قال: أضحي بنيسابور.
11860- فأما إذا قال: أذبح أو أنحر، ولم يذكر لفظة مشعرة بالقربة، فالذي صار إليه المعتبرون أنه لا يلزمه بهذا اللفظ شيء، وذكر العراقيون وجهاً أنه يلزمه ما يلزمه لو ذكر التضحية، وهذا بعيد. ووجهه على بعده اتصال لفظ النذر به، وهو يقتضي القربة، فالمذكور بعده متقيد بلفظ النذر.
11861- وإذا جمع الجامع هذا إلى ما ذكرناه من نذر الذبح والنحر في مكة من غير لفظ التضحية والهدي، ثبت عنده وجهان إذا فرضت المسألة في مكة:
أحدهما: أنه لا يلزمه شيء.
والثاني: يلزمه لعلتين: إحداهما- لفظ النذر، والأخرى- الإضافة إلى المكان المهيأ لهذا النوع، ثم إذا فرضت المسألة في تسمية بلدة أخرى مع لفظ الذبح، انتظم فيها وجهان مرتبان على الوجهين المذكورين في مكة، فإن قلنا: لا يلزم بالنذر وإن أضيف إلى مكة شيء، فلأن لا يلزم في غير مكة أولى، وإن قلنا: يلزم ثمَّ، ففي غير مكة وجهان. والفرق تعدد السبب الدّال على القربة في مسألة مكة واتحاد النذر في غيرها.